فيلم حياة أو موت هو عمل سينمائي من إنتاج الخمسينات، بطولة عماد حمدي، رشدي أباظة، يوسف وهبي ومديحة يسري، وقصة إخراج العبقري كمال الشيخ، وتتمحور حبكة هذا العمل الكلاسيكي حول أحمد أبراهيم الموظف البسيط الذي يدخل في مشاحنة عارمة مع زوجته، فتترك المنزل وتبقى الابنة الصغيرة بجانب أبيها.
فيُصاب الأب بكريزة الكلى فلا يجد طوق نجاة من مضاعفات وأعراض هذا المرض المُميت، إلا طفلته الفاقدة للخبرة والنضج ولكنها تمتلك حب والدها وخوفها عليه، فيعطيها 25 قرش لكي تجلب له الدواء المُسكن لحالته، من هذا المُنطلق تحتدم أحداث الفيلم في رحلة عاثرة لجلب الدواء للأب الذي يواجه الموت، حيث تواجه الفتاة الكثير من المغامرات والعوائق حتى توطأ أرضية المنزل وبحوزتها العقار. وتعود شهرة فيلم حياة أو موت حتى اليوم بسبب الجملة الشهيرة التي يتخذ منها رواد السوشيال ميديا سخرية للنكات والكوميك وهي
"أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس الدواء فيه سم قاتل"
تحليل أحداث فيلم موت وحياة
إذا قمنا بتحليل أحداث هذا الفيلم فسوف نلمس الكثير من السمات المجتمعية بحقبة الخمسينات، والتي نفتقدها بالعهد الحالي حيث نتجرع منه التدني والفساد الأخلاقي، فمع بداية مغامرة الطفلة الراكضة نحو متجر العقاقير، ستجد صاحب الدراجة الذي أوصل الطفلة لترام العتبة، والكمسري الذي أوصى سائق الترام ليزيد من سرعة القيادة، عندما علم أن الفتاة في عجلة من أمرها للذهاب نحو الصيدلية بالعتبة لجلب الدواء لأبيها المريض.
سوف تستشعر مشاعر تفتقدها اليوم بالشارع المصري، وهي الرحمة والإنسانية التي يتحلى بها الصيدلي، وهو يتنازل عن قرش من ثمن الدواء لأجل الطفلة التي لا تملك سوى 25 قرش فقط، وسترتسم على وجهك ابتسامة باهتة وأنت ترى مشهد شهامة المارة بالشارع، وهم يهرولون نحو الفتاة المُستنجدة بهم عندما انتزع رجل ثمل زجاجة الدواء منها مُعتقداً أنها زجاجة خمرة فيعيدوها لها.
ورجل شهم آخر يهرع نحو حانة الخمور، ليجلب للصغيرة الناحبة زجاجة فارغة بدلاً من زجاجة دواء التي تهشمت عندما سقطت منها بالأرض، فيُسرع في سكب الدواء الذي ينساب من كسور الزجاجة الأصلية بالجديدة الصالحة.
كما ستلاحظ بمشهد آخر من ضمن المشاهد المُوترة، الشرطي الذي يتعاطف مع الطفلة ويشحن باقي زملائه لكي يتعاونوا معها من أجل إنقاذ أبيها، خاصة بعد أن يدرك الصيدلي ذو الضمير اليقظ أنه أفسد خلطة الدواء، فيهرع بكل طاقته لينقذ رجلاً لا يعرفه!! بل يحتدم الأمر حتى يصل لمحطة الإذاعة التي تصدر بيان تحذيري بالجملة الشهيرة "أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس الدواء فيه سم قاتل"، والتي نسخر منها ولكن بالحقيقة لا بد أن نسخر من أنفسنا، لأن لو تكرر هذا السيناريو اليوم، لفشلت الطفلة في إنقاذ الأب.
فيلم حياة أو موت بعام 2023
فماذا إذا تم إعادة إنتاج الفيلم بنسخة مُستحدثة تساير الوضع الراهن، وسط هذا الزخم البائس من الجرائم التي نُفجع عند سماعها بشكل متكرر ويومي، فهناك أكثر من سيناريو ستواجهه الصغيرة، مثلا الخطف من قبل تُجار الأعضاء البشرية، أو القتل والسرقة على يد سارق طامع بمال الدواء الذي بحوزتها، وهناك سيناريو جديد مُتفشي بالفترة الحالية وهو اغتصاب الأطفال، جراء الأمراض النفسية التي تملكت منا وحاصرتنا كالبيدوفيليا والانحرافات الجنسية، وغيرها من السيناريوهات المقيتة والمُخيفة التي جعلت من الشوارع الآمنة غابة موحشة.
الفرق بين الزمن الجميل و الزمن الحالي
فيلم حياة أو موت بمثابة لطمة قوية على رؤوسنا، تنير بواطن الاستفاقة وتدارك الفرق بين بشر عاصروا عصر مُترع بالاحترام والإنسانية، وبشر وُلدوا بعصر مُمسخ بحكم وأمثال شعبية مثل "إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك "، " اللي له حاجة عند الكلب يقوله يا سيدي "، " اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع ".
فقد أصبحت العادات والتقاليد بدلاً من أن تُستمد من علوم الدين وعلم السوسيولوجيا، أصبحنا نستلهمها من الأمثال الشعبية المغلوطة والموروث الرجعي وأفلام الخلطة المسمومة بأجندات غربية والأبطال الخارقين ذو البطولات الوهمية، فشوهنا عقول ناشئة وضيعنا أيام حالمة داخل دوامة مستقبل خافت نجمه.
وأصبح منهج البشرية مُتعلق بالمصلحة والمنفعة الخاصة، فمن يكترث لأمر فتاة صغيرة تريد أن تجلب دواء لأبيها المريض؟ وما العائد الشخصي من مساعدتها!! وما الفائدة المادية عندما تفرج كرب مكروب أو مكلوم وإعطاءه قدر من وقتك الثمين؟ قد تتفاوت الإجابات من شخص لآخر، لكن سيتفق الجميع في نقطة (الدنيا تلاهي، ومفيش حد فايق للتاني).
فالأمر لا يتعلق بمجرد فيلم هادف وفن راقي، بل إنه مرآة لبعض المُتأملين والخائبين الرجاء بما نلمسه الآن من شوائب وقذورات بعض النفوس العكرة، التي ملئت الأجواء حولنا برائحة عفنة فواحة تفتر القلوب النقية والمعادن الأصيلة النادرة بطباع البشر، فمرآة الماضي نراها بعمق في الأفلام القديمة وننهل منها الكثير من أوجه الإختلاف، كقطع فسيفساء لا يمكنها تشكيل أى لوحة عتيقة، ونلمس من خلالها عصر عتيق بعبق الأصالة والتَسنم.
ونفس المرآة تعطينا انطباع مزري نحو رؤية عصر واهن عاجز غير قادر على مواكبة السمو الإنساني، عصر كثرت فيه الشائعات والأقاويل الزاعمة عن إقتراب يوم الساعة جراء انتهاكات وتجاوزات البشر، فـ بنهاية فيلم حياة أو موت تم إنقاذ أحمد إبراهيم من الدواء المسموم ولحقه الصيدلي بالدواء الشافي، أما باليوم الحالي فالدواء مسموم وقاتل صامت ومع ذلك تقاعست كل أيادي العون عن إنقاذ القلة الشرفاء المحترمين.
تعليقات
إرسال تعليق