الروائي غسان كنفاني.. "من رحم المُعاناة يُصنع الإبداع" تلك المقولة تضعنا أمام تاريخ المناضل الأدبي الذي وقف جسوراً أمام الموساد الإسرائيلي، لم يكن بحوزته سلاح ناري أو حزام ناسف، بل مجرد قلم غاضب ثائر تناثرت من نقاط حبره شظايا أكثر هلاكاً للعدو من شظايا السترات الانتحارية، فما كان من بني صهيون إلا الطعن الغادر كعادتهم واغتياله، ورغم ذلك ظلت أعماله خالدة تنبض بالدفاع عن القضية الفلسطينية وتم ترجمتها إلى 17 لغة، لتخاطب شعوب 20 دولة وهي تسرد أحلام الجُسور في الدفاع عن الأرض والعرض.
بداية غسان كنفاني
وُلد الروائي غسان كنفاني في عكا بشمال فلسطين سنة 1936، لكنه انتقل مع عائلته إلى لبنان وبعدها إلى سوريا، حيث تم إجبارهم على النزوح من قبل العدو الجائر سنة 1948، وما أن أصبح شاب يافع بضواحي دمشق ولديه أحلامه المستقبلية، قرر الالتحاق بكلية الأدب العربي داخل جامعة دمشق سنة 1952، لكنه لم يُكمل دراسته بها حيث أنضم إلى حركة القوميين العرب وكان يكتب مقالاته باسم هذه الحركة الوطنية في مجلة الحرية داخل العاصمة بيروت.
سافر بعد ذلك للكويت من أجل الدراسة سنة 1955، وبدأ العمل كصحفي في إحدى الصحف مستخدماً الاسم المستعار (أبو العز)، كما أنجز أولى أعماله الأدبية آنذاك وهي القصة القصيرة (القميص المسروق) وبفضلها اشترك في مسابقة أدبية وحاز على الجائزة الأولى، وبعد فترة وجيزة من الدأب في المجال الصحفي، تقلد منصب رئاسة تحرير صحيفة المُحرر اللبنانية، وقام بتدشين قسم خاص بأخبار فلسطين، لكنه لم يستمر بها حيث قام بتأسيس جريدته (مجلة الهدف) التي تمثل الجبهة الشعبية الحرة لتحرير فلسطين.
أعمال غسان كنفاني الأدبية
قدم الروائي غسان كنفاني خلال مسيرته الأدبية الكثير من المقالات والروايات والقصص القصيرة، التي أترعت المناصرين للقضية الفلسطينية بالحماسة، فقد أصبحت مؤلفاته بمثابة متنفس لحَسراتهم ومُعبر لوطنيتهم ومنقذ لآمالهم في الخلاص من الاستعمار، كما كانت مؤرخة للكثير من الأحداث العصيبة التي مرت على العرب ما بين النكبة والنكسة.
في المجموعة القصصية (أرض البرتقال الحزين) سنة 1963 استحضر ذكريات النزوح من وطنه نحو لبنان من خلال مجموعة قصص معبرة مثل قصة ورقة من غزة و قصة السلاح المُحرم ، وفي المجموعة القصصية (موت سرير رقم 12) سنة 1961 كانت شاهدة على أيام المرض التي قضاها بالمشفى، وهو يعاني مضاعفات داء السكري بسبب كثرة الإجهاد البدني والذهني وإهمال صحته، ومع ذلك لم يكن المرض عائقاً أمام مواصلة إبداعاته.
أما عن أولى رواياته وهي (رجال في الشمس) سنة 1963، فقد قدم من خلالها الشخصيات أبو قيس وأسعد ومروان الذين يرفضون التعامل مع المُهرب التَائق ويتقابلون مع أبو الخيزران الذي يقبل بتهريبهم بسيارة تاجر كويتي مقابل عشرة دنانير من كل شخص، وقد استلهم كنفاني أحداث الرواية من رحلته الصحراوية وهو عائداًَ من الكويت، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي سوري اسمه المخدوعون.
ومع تصاعد الروايات المتتالية لتلك الرواية مثل (ما تبقى لكم) ورواية (عائد إلى حيفا)، ستجد غسان كنفاني يطور الشخصية الفلسطينية من اللاجئ المُنهزم مسلوب الإرادة إلى الفلسطيني الفدائي الذي يُفضل الموت والشهادة عن التقاعس وهو خائب الرجاء، ثم يصل إلى ذروة الحماسة في عائد إلى حيفا حيث المقاوم الثائر بعد نكبة 1948، فالإنسان قضية وفلسطين هي حاضره ومستقبله، وهذا ما نعيشه اليوم عقب أحداث طوفان الأقصى، وقد تم تحويل هذه الملحمة الإنسانية إلى فيلم سينمائي في الثمانينيات و حصد 4 جوائز عالمية.
ولم ينسي كنفاني المرأة الفلسطينية الحرة الصبورة، الأرملة وأم الشهيد ومُنجبة الرجال، فكتب رواية (أم السعد) ونُشرت عام 1969، وهي رواية تتناول قصص حقيقية عن الفدائيين الفلسطينيين ومجتمع اللاجئين، كما تم نشر أعمال أخرى له سواء كانت روائية أو مسرحية مثل المجموعة القصصية (الشيء الآخر) والتي نُشرت بعد حادثة اغتياله سنة 1980، ومسرحية (القبعة والنبي) التي خرجت صفحاتها للنور بعد نفوق روح كنفاني من الأرض للسماء بحوالي تسعة أشهر.
الحب في حياة غسان كنفاني
كان الروائي غسان كنفاني كحال معظم الأدباء والشعراء، مُتيم بالعشق ومسجور بالمشاعر، فمن يُحاوط نفسه بحب الوطن لسنوات طويلة ويكتب عن هذا الحب في كل دانية ونائية، لن يستعصى عليه أن يستطعم كل أشكال الحب الأخرى، وهل هناك أجمل من حب امرأة مثلك لها نفس التوجهات وتشن بجبهتك كل الحروب الفكرية، نعم.. إنها (أني هوفر) الفتاة الدنماركية التي ذاب كنفاني في عشقها وهي تثور من أجل القضية الفلسطينية بالمؤتمر الطلابي في يوغسلافيا، ليُتوج الحب سريعاً إلى زيجة مباركة عام 1961، وينجب منها الطفلين فايز وليلى.
ورغم حبه واستقراره مع هوفر، إلا أنه لم يستطع إيقاف قلبه عن النبض بحب الكاتبة السورية (غادة السمان)، فقد كتب لها الكثير من الرسائل الغرامية التي سطرت في كتاب (رسائل غسان كنفانى إلى غادة السمان)، حيث قررت غادة جمع تلك الرسائل المُشعة بالعشق المكبوت وكان عددهم 12 رسالة، وتم نشرهم بعد اغتيال كنفاني، أما باقي الرسائل فقد احترقوا مع منزلها الذي نُشب فيه الحريق في بيروت سنة 1968.
ومن أهم كلمات تلك الرسائل
" أنني أحبك، الآن أحسها بشكل عميق أكثر من أي وقت مضى، الآن أحس هذه الكلمة التي وسخوها كما قلتِ لي، والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري"
اغتيال غسان كنفاني
لم يستطع العدو الاستيطاني الإسرائيلي ردع الروائي غسان كنفاني عن مواصلة شحن الشعب والمقاومة ضدهم من خلال كتاباته، التي وصلت للعالمية وقدمت وصف مُفصل لكل مشاهد العدوان الدموية الاستبدادية، فقد كان قلم كنفاني محارب للعدوان أكثر من الدبابة والبندقية، فقررت رئيسة الوزراء الإسرائيلية (جولدا مائير) استخراج قائمة اغتيالات آنذاك، بها أهم أسماء الأشخاص المؤثرين بالقضية الفلسطينية مثل بسام أبو الشريف، كمال عدوان، وديع حداد وكمال ناصر وبالطبع غسان كنفاني وأمرت بتصفيتهم.
فهذا هو تاريخ دولة تم بناؤها بالدم وأشلاء الأطفال وأوجاع العجائز وطعن البواسل من الرجال، أمثال كنفاني الذي لقي حتفه من خلال وضع عبوة ناسفة داخل سيارته الأوستين البيضاء، فلم يكن يتوقع غدر هؤلاء الأوغاد به، وترجل نحو سيارته بجراج منزله ومعه ابنة أخته لميس، و بمجرد إشعال مقود السيارة، واجهت المنطقة (مار نقولا) في بيروت الشرقية، انفجار مروع راح ضحيته بطل من أبطال الفكر الأدبي ومعه طفلة صغيرة ليس لها ذنب، إلا أنها عاصرت عصر ترعرعت فيه زرعة شيطانية سامة اسمها إسرائيل.
وبعدها استشهد غسان كنفاني سنة 1972 وتم دفنه في مقبرة الشهداء في بيروت، وتوقف قلمه عن الإهتراش ضد الأوباش، لكن أعماله لم تموت بل تمسكت بالحياة لسنوات طويلة وأكملت رحلة النضال من بعده حتى اليوم.
اقتباسات غسان كنفاني
كتاب رجال في الشمس
( أريد أن أستريح، أتمدد، أستلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر، لا أريد أن أتحرك قط. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف! أي والله أكثر من كاف)
كتاب رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان
( المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل, وكذلك الرجل في عمر المرأة ,وعدا ذلك ليس الا محاولات التعويض )
كتاب موت سرير رقم 12
(إن الأشياء الصغيرة، حينما تحدث في وقتها، يكون لها معنى أكبر منه. أقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير)
كتاب رجال في الشمس من أعمال الروائي غسان كنفاني
(الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قبة عريضة من لهب أبيض، وشريط الغبار يعكس وهجاً يكاد يعمي العيون)
تعليقات
إرسال تعليق