" لا أريد صناعة أفلام جميلة، بل أريد صناعة أفلام مفيدة "
بهذه المقولة لخص المخرج الإيطالي ( روبرت روسيلينى ) تاريخه الفني الحافل بالأفلام الواقعية، وأعتقد أن المخرج المصري الموهوب (أحمد عبد الله) يسير على نفس النهج، فكما قدم لنا سابقاً أفلام هامة على المستوى الفني والبصري مثل فرش وغطا، ميكروفون، ديكور وليل خارجي.
يعود بفيلم جديد حصد ثلاثة جوائز بمهرجان القاهرة السينمائي وهو فيلم 19ب، هذا الفيلم ذو الطابع الفني الحامل لقصة بسيطة تحمل بين ثناياها الكثير من الرمزية و الرسائل الغامضة والإسقاطات غير المباشرة، فالرؤية الفنية لفيلم 19 ب بمثابة صفعة مدوية للعالم أجمع، تعبر عن تاريخ مرير نعاني من آثاره حتى اليوم، ونحن نتابع تصاعد وتيرة الأحداث المتوترة بفلسطين وصراعها من أجل النهوض رغم خناق جيش الاحتلال الجائر.
مُلخص فيلم 19 ب
يتناول الفيلم قصة تبدو بسيطة عن (حارس عقار) قديم مُصمم تصميم شعبي زخرفي يعود لفترة الحرب العالمية الأولى أو ما يُسمي آرت ديكو، ليعبر من خلاله المخرج عن مدى عراقة هذا المكان، والذي يتم فيه تصوير الفيلم كاملاً.
هذا الحارس المُسن يقطن بالمنزل ويحرسه في ظل غياب المُلاك والورثة، يقضي يومه بين إطعام الكلاب والقطط حيث أصبح المنزل مأوى لهم، و زراعة بعض الأعشاب بحديقة المنزل مثل النعناع، واحتساء كوب الشاي الساخن بالشرفة وهو يستمع لأغاني المطرب محمد عبد المطلب.
تزوره نجلته المتزوجة (يارا) من حين إلى آخر لتطمئن عليه وتجلب له بعض الطعام المطبوخ، وتحاول اقناعه بترك المنزل والعيش معها بمنزل الزوجية، لكنه يعترض بتعنت ويُفضل المكوث بهذا المنزل الشبه مهجور، حتى عودة أصحابه من الخارج.
ورغم أن الحارس رجل مُسالم يريد العيش في هدوء وأمان، إلا أن المشاكل تعرف طريقها له تباعاً، فالفئران تقرقض سلك الكهرباء المغذي للمنزل بالشحنات الكهربائية مما يُحتم عليه إصلاح السلوك بشكل دائم، بالإضافة إلى شكاوى الحي الذي يتهمه بإيواء الكلاب الضالة التي تهاجم سكان المنطقة والأطفال، كما أن المنزل أصبح مُترع بالشقوق الإنشائية التي تتطلب حقن، بجانب الحجر الضخم الذي يقوم بحمله بصعوبة من الشارع وإدخاله للمنزل.
كل تلك المشاكل لم تكن كافية لتحول حياة الحارس إلى جحيم، فقد ظهر (نصر) الشاب اليافع الذي اختفي من الحي فترة، ثم عاد ليعمل سايس حول المنزل، وعيونه لا تتوقف عن رصد المنزل والطمع بمكان واسع يستوطنه، فيستغل هذا الشخص البربري طيبة وضعف حارس العقار ومكوثه بمفرده بالداخل، و يراوغه بالحيلة حتى يضع يده بشكل كامل على المنزل، فالبداية كانت إتفاق على وضع بعض بضائعه من صناديق السجائر بحجرة صغيرة والدفع مقابل استئجار هذه المساحة، ومع الوقت أصبحت الغرفة مبيت لنصر حتى تَطَأْطَأَ المنزل وحارسه بشكل كامل تحت هيمنته.
و رغم محاولات الحارس البائسة في ردعه إلا أنها باءت بالفشل أمام سطوة وشر نصر، حتى بعد استدعاء المحامي المسؤول عن أعمال المُلاك ليستلم أمر المنزل، لكنه صدم الحارس بأنهم لم يعودوا يكترثوا لأمره، وعليه التأقلم مع استيطان نصر و زملائه من الغوغائيين أمثاله معه.
حتى ابنته يارا حاولت مساعدته وطرد نصر من منزلهم، و رغم شجاعتها في مواجهته ونهره وصفعه إلا أنها قررت الابتعاد بشكل مبرر بسبب تغيير مكان عملها، فلا يجد شخص أشيب قليل الحيلة مثل الحارس، إلا الاعتزال وترك البيت لنصر وصحبته، والتقوقع والجُثوم على أريكة بالبهو الخارجي للمنزل.
حتى يأتي اليوم غير المحمود عقباه، والساعة الليلية المظلمة التي يقرر فيها التيار الكهربائي التسرب خارج السلوك وفصل الكهرباء عنهم، فيوقظ نصر الحارس لإصلاحها ليبدأ رصيد الثبات الإنفعالي والحذر لديه ينتقص تدريجياً، حتى يضيق به ذرعاً ويثور غاضباً عندما يركل نصر جروه الصغير، فينقض عليه في مشاحنة غير متكافئة القوى بين الشايب المتقلقل والفتي الجارف عريض المنكبين، ولكن الاندفاع هنا هو سيد الموقف.
فبين قبضة ذراعي نصر رقبة الحارس وهو يستجير ويكاد أن يقضي نحبه، يجد قطعة زجاج مكسورة بالأرض فلا يتردد في الإمساك بها وغرسها في رقبة المعتدي، ليتركه نصر وهو يحاول إيقاف الدماء المنسابة من رقبته، وبنفس الوقت عيونه تندلع بلهيب الغضب والوتر من الحارس، فيُسرع بحمل جاروف الحفر المُلقي أرضاً وسدحه بقوة نحو رأس نصر، فيسقط على أحد أعمدة الحقن فيكسرها، حيث يهتز المنزل اهتزاز بسيط أسفر عنه سقوط الحجر الضخم على جسد نصر فيهشمه ويرديه صريعاً.
وبعد يومين من الحادث تعود الأجواء حول المنزل صافية كما كانت، فيسأل صديق الحارس (سكر) الذي يتردد عليه بشكل شبه دائم، عن الضجة التي تسللت من خارج المنزل من أيام
سمعت دوشة عندك من كم يوم.. أكيد الفئران.
ليرد عليه الحارس بتمالك أعصاب وقلق غير ظاهر
آه.. دوشة جامدة يعني؟
مش فارقة هو حد مركز مع حد ولا حد بيسأل على حد يا أبا.. ما قلت لك إحنا بطولنا.
لتكون هذه الجملة الحوارية هي نهاية الفيلم ونهاية الرسالة المُلغزة التي يوجهها الكاتب والمخرج أحمد عبد الله للمشاهد.
القضية الفلسطينية
ليس فيلم 19 ب العمل الأول الذي ناقش القضية الفلسطينية والوحدة العربية بشكل غير مباشر، فهناك مسلسل (عايش في غيبوبة) للفنان محمد صبحي، ومسرحية عفروتو للكوميديان (محمد هنيدي)، فالرمزية بالفيلم كما شاهدتها وقد تكون وجهة نظري أو رؤيتي أنا الشخصية، وليست الرؤية الفنية لفيلم 19 ب، تشير نحو بداية تهجير اليهود وتجمعهم بفلسطين ثمانينات القرن الـ 19، ثم شراء أراضي من مستوطنين غير فلسطينيين على الحدود، حتى وعد بلفور عام 1917 الذي صدر من الحكومة البريطانية.
وأكد على أهمية إقامة دولة لليهود وأن فلسطين ليست عربية محضة، ومعاونة بريطانيا للمليشيات الإسرائيلية أمام جيش العرب عام 1948 والتي انتهت ببداية الاحتلال على بيت المقدس، أما الاحتلال الدولي فكان عام 1967 عندما دعا مجلس الأمن إلى اعتراف العرب بدولة إسرائيل.
ومن يومها والفلسطينيين يحاربون عدو صهيوني مغتصب بمفردهم، سواء من خلال أحداث الانتفاضة الفلسطينية (أطفال الحجارة) عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000، وأخيرا طوفان الأقصى الذي نعاصر أحداثه اليوم عام 2023، ولكن هذا المرة أمريكا والدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا هم المعاونين لإسرائيل في مجازرها ضد أطفال ونساء ورجال فلسطين.
الرؤية الفنية لفيلم 19 ب وعلاقته بالقضية الفلسطينية
فحارس العقار يمثل العرب المؤمنين بأهمية القدس والسكان الأصليين للأرض الطاهرة، فبيت المقدس أرض الأنبياء ومبعثهم، الأرض التي صلى بها كل الأنبياء خلف الإمام محمد صلوات الله عليه، أرض الإسراء والمعراج وبوابتها إلى السماء، لذا هي قضية تهم كل العرب وليس فقط الفلسطينيين.
حارس العقار يريد السلام والأمان وكذلك العرب، ولكن العهود والمواثيق الدولية تجبرنا على تحمل تداعيات الحرب العالمية الثانية ومحرقة هتلر، مما جعلهم يتدخلون في الشؤون الخاصة للدول العربية، كما تحاول لجنة الحي أن تفعل بالفيلم.
مما جعل اليهود يشعرون بالمظلومية وأن لهم حق في بلادنا، وهذا ما أشار إليه نصر في الديالوج المُتقن مع الحارس بالدقيقة 75، عند حديثه عن ظلم الناس له وكرهه للظلم والقهر، مما جعله يفضل أن يكون ظالم ويسطو على منزل الحارس على أن يكون مظلوم وضعيف كالسابق.
أما عن أصحاب المنزل فهم العرب الذين باعوا القضية الفلسطينية ولم يعودوا يهتموا بها، حتى اليوم تجدهم يعيشون حياتهم بدون الاكتراث للأحداث الجارية بفلسطين، وعن الحجر الضخم فهو رمز للعروبة التي حاول الحارس حملها داخل منزله رغم ثقلها والتي ستقتل عدونا بالنهاية كما قتل الحجر نصر.
و يارا فهي من منظوري الشخصي تعبر عن دولة مصر، التي حاولت ردع نصر عن والدها أكثر من مرة بالأمور الودية ومازالت تحاول حتى اليوم، والصفعة التي صفعتها له في مشهد حماسي يشير إلى حرب 73 والنصر الذي حققه المصريين أمام العدو الإسرائيلي.
أما عن الفئران التي تقرقض السلوك، فهم الجواسيس الصهاينة الموجودين بكل الدول العربية، يحاولون عرقلة مسار حياتنا نحو التقدم، كما فعلت الفئران بالسلوك وفصل الكهرباء عن المنزل، والقطط الصغيرة هم الأطفال والأجيال القادمة الذين نحاول إطعامهم معنى العروبة، كما كان الحارس يقدم لهم اللبن والطعام، وفي المشهد عند الدقيقة الرابعة ونصف ببداية الفيلم، تحدث الحارس مع سكر عن كبر حجم الفئران مقارنة بالقطط الضعيفة.
أما تسميم الكلب والذي يرمز للوفاء والإخلاص على يد نصر وصحبته، فهو تلميح مُبهم نحو الحرب النفسية التي يشنها الأعداء على شبابنا وبناتنا، من خلال الأفكار الغربية العصرية كالتحرر والنسوية والمثلية وغيره.
والجملة الأخيرة التي ذكرها سكر للحارس، فهي تلخص الوضع الذي وصلت له القضية الفلسطينية من عدم الاهتمام واللامبالاة من الجميع، فالمؤمنين بالقضية حقاً بمفردهم.
بالنهاية قد أكون بالغت في الرمزية وتحليل المشاهد وإيجاد اسقاطات لم يقصدها كاتب الفيلم، لكن هذا ما شعرت به عند مشاهدتي الأولى للعمل الفني الرائع وأهمية الرؤية الفنية لفيلم 19 ب وعلاقته بالقضية الفلسطينية.
تعليقات
إرسال تعليق